2pac عـضـو مــمـيـز
عدد الرسائل : 350 العمر : 29 الموقع : دولة بوخالف العظمى نقاط : 6077 تاريخ التسجيل : 19/09/2008
| موضوع: دقيقة واحدة الثلاثاء يوليو 12, 2011 6:21 pm | |
| كنت أقف منتظراً دوري أمام شباك التذاكر لأشتري بطاقة سفر بالحافلة إلى مدينة تبعد حوالي 330 كم.. وكانت أمامي سيدة ستينية تحول بيني وبين شباك التذاكر وطال حديثها مع الموظفة التي قالت لها في النهاية: الناس ينتظرون، أرجوكِ تنحّي جانباً.. فابتعدت المرأة خطوة واحدة لتفسح لي المجال، وقبل أن أشتري بطاقتي سألت الموظفة عن المشكلة، فقالت لي بأن هذه المرأة معها ثمن بطاقة السفر وليس معها يورو واحد قيمة بطاقة دخول المحطة، وتريد أن تنتظر الحافلة خارج المحطة وهذا ممنوع.. قلتُ لها: هذا يورو وأعطها البطاقة، وتراجعتُ قليلاً وأعطيتُ السيدة مجالاً لتعود إلى دورها بعد أن نادتها الموظفة مجددا.. اشترت السيدة بطاقتها ووقفت جانباً وكأنها تنتظرني، فتوقعت أنها تريد أن تشكرني، إلا أنها لم تفعل، بل انتظرتْ لتطمئن إلى أنني اشتريت بطاقتي وسأتوجه إلى ساحة الانطلاق، فقالت لي بصيغة الأمر: احمل هذه... وأشارت إلى حقيبتها.. كان الأمر غريباً جداً بالنسبة لهؤلاء الناس الذين يتعاملون بلباقة ليس لها مثيل، بدون تفكير حملت لها حقيبتها واتجهنا سوية إلى الحافلة.. ومن الطبيعي أن يكون مقعدي بجانبها لأنها كانت قبلي تماماً في الدور.. حاولت أن أجلس من جهة النافذة لأستمتع بمنظر تساقط الثلج الذي بدأ منذ ساعة إلا أنه بدأ يمحو جميع ألوان الطبيعة معلناً بصمته الشديد: أنا الذي آتي لكم بالخير وأنا من يحق له السيادة الآن.. لكن السيدة منعتني وجلستْ هي من جهة النافذة دون أن تنطق بحرف.. فرحتُ أنظر أمامي ولا أعيرها اهتماماً، إلى أن التفتتْ إلي تنظر في وجهي وتحدق فيه، وطالت التفاتتها دون أن تنطق ببنت شفة وأنا أنظر أمامي، حتى إنني بدأت أتضايق من نظراتها التي لا أراها لكنني أشعر بها فالتفتُ إليها، عندها تبسمتْ قائلة: ـ كنت أختبر مدى صبرك وتحملك. ـ صبري على ماذا؟ ـ على قلة ذوقي، أعرفُ تماماً بماذا كنتَ تفكر. ـ لا أظنك تعرفين، وليس مهماً أن تعرفي. ـ حسناً، سأقول لك لاحقاً، لكن بالي مشغول كيف سأرد لك الدين. ـ الأمر لا يستحق، لا تشغلي بالك. ـ عندي حاجة سأبيعها الآن وسأرد لك اليورو، فهل تشتريها أم أعرضها على غيرك؟. ـ هل تريدين أن أشتريها قبل أن أعرف ما هي؟. ـ إنها حكمة. أعطني يورو واحداً لأعطيك الحكمة. ـ وهل ستعيدين لي اليورو إن لم تعجبني الحكمة؟. ـ لا فالكلام بعد أن تسمعه لا أستطيع استرجاعه، ثم إن اليورو الواحد يلزمني لأنني أريد أن أرد به دَيني. أخرجتُ اليورو من جيبي ووضعته في يديها وأنا أنظر إلى تضاريس وجهها، لا زالت عيناها تلمعان كبريق عيني شابة في مقتبل العمر، وأنفها الدقيق مع عينيها يخبرون عن ذكاء ثعلبي، مظهرها يدل على أنها سيدة متعلمة، لكنني لن أسألها عن شيء، أنا على يقين أنها ستحدثني عن نفسها فرحلتنا لا زالت في بدايتها، أغلقت أصابعها على هذه القطعة النقدية التي فرحت بها كما يفرح الأطفال عندما نعطيهم بعض النقود وقالت: ـ أنا الآن متقاعدة، كنت أعمل مدرّسة لمادة الفلسفة، جئت من مدينتي لأرافق إحدى صديقاتي إلى المطار. أنفقتُ كل ما كان معي وتركتُ ما يكفي لأعود إلى بيتي، إلا أن سائق التكسي أحرجني وأخذ مني يورو واحد زيادة، فقلت في نفسي سأنتظر الحافلة خارج المحطة، ولم أكن أدري أنه ممنوع. ـ أحببتُ أن أشكرك بطريقة أخرى بعدما رأيت شهامتك، حيث دفعت عني دون أن أطلب منك. الموضوع ليس مادياً. ستقول لي بأن المبلغ بسيط، سأقول لك أنت سارعت بفعل الخير ودونما تفكير. قاطعتُ المرأة مبتسماً: ـ أتوقع بأنك ستحكين لي قصة حياتك، لكن أين البضاعة التي اشتريتُها منكِ؟، أين الحكمة؟. ـ فردت قائلة: "بَسْ دقيقة". ـ أجبتها بعفوية: سأنتظر دقيقة. ـ فقالت: لا.. لا.. لا تنتظر "بَسْ دقيقة".. هذه هي الحكمة. ـ قلت لها: ما فهمت شيئا. ـ فقالت: لعلك تعتقد أنك تعرضتَ لعملية احتيال. ـ أجبتها: ربما. ـ فاستطردت قائلة: سأشرح لك: "بس دقيقة"، لا تنسَ هذه الكلمة، في كل أمر تريد أن تتخذ فيه قرارا، عندما تفكر به وعندما تصل إلى لحظة اتخاذ القرار أعطِ نفسك دقيقة إضافية، ستين ثانية، هل تعلم كم من المعلومات يستطيع دماغك أن يعالج خلال ستين ثانية في هذه الدقيقة التي ستمنحها لنفسك قبل إصدار قرارك قد تتغير أمور كثيرة، ولكن بشرط!. ـ بادرتها بالسؤال: وما هو الشرط؟. ـ فأجابت: أن تتجرد عن نفسك، وتُفرغ في دماغك وفي قلبك جميع القيم الإنسانية والمثل الأخلاقية دفعة واحدة وتعالجها معالجة موضوعية ودون تحيز، فمثلاً: إن كنت قد قررت بأنك صاحب حق وأن الآخر قد ظلمك. ـ فخلال هذه الدقيقة وعندما تتجرد عن نفسك ربما تكتشف بأن الطرف الآخر لديه حق أيضاً، أو جزء منه، وعندها قد تغير قرارك تجاهه. إن كنت نويت أن تعاقب شخصاً ما فإنك خلال هذه الدقيقة بإمكانك أن تجد له عذراً فتخفف عنه العقوبة أو تمتنع عن معاقبته وتسامحه نهائيا. دقيقة واحدة بإمكانها أن تجعلك تعدل عن اتخاذ خطوة مصيرية في حياتك لطالما اعتقدت أنها هي الخطوة السليمة، في حين أنها قد تكون كارثية. دقيقة واحدة ربما تجعلك أكثر تمسكاً بإنسانيتك وأكثر بعداً عن هواك. دقيقة واحدة قد تغير مجرى حياتك وحياة غيرك، وإن كنت من المسؤولين فإنها قد تغير مجرى حياة قوم بأكملهم. هل تعلم أن كل ما شرحته لك عن الدقيقة الواحدة لم يستغرق أكثر من دقيقة واحدة؟. ـ قلت: صحيح، وأنا قبلتُ برحابة صدر هذه الصفقة وحلال عليكِ اليورو. ـ فقالت لي: تفضل، أنا الآن أردُّ لك الدين وأعيد لك ما دفعته عني عند شباك التذاكر والآن أشكرك كل الشكر على ما فعلته لأجلي. أعطتني اليورو، تبسمتُ في وجهها واستغرقت ابتسامتي أكثر من دقيقة لأنتبه إلى نفسي وهي تأخذ رأسي بيدها وتقبل جبيني قائلة: ـ هل تعلم أنه كان بالإمكان أن أنتظر ساعات دون حل لمشكلتي، فالآخرون لم يكونوا ليدروا ما هي مشكلتي، وأنا ما كنتُ لأستطيع أن أطلب اليورو من أحد. ـ فقلت لها: حسناً، وماذا ستبيعيني لو أعطيتك مئة يورو؟. ـ ردت بسرعة: سأعتبره مهراً وسأقبل بك زوجاً. علتْ ضحكتُنا في الحافلة وأنا أُمثـِّلُ بأنني أريد النهوض ومغادرة مقعدي هربا وهي تمسك بيدي قائلة: ـ اجلس فزوجي متمسك بي وليس له مزاج أن يموت قريباً. وأنا أقول لها: "بس دقيقة"، "بس دقيقة". لم أتوقع بأن الزمن سيمضي بسرعة، حتى إنني شعرت بنوع من الحزن عندما غادرتْ الحافلة عندما وصلنا إلى مدينتها في منتصف الطريق تقريباً، وقبل ربع ساعة من وصولها حاولتْ أن تتصل من جوالها بابنها كي يأتي إلى المحطة ليأخذها، ثم التفتتْ إليّ قائلة: ـ على ما يبدو أنه ليس عندي رصيد. فأعطيتها جوالي لتتصل، المفاجأة أنني بعد مغادرتها للحافلة بربع ساعة تقريباً استلمتُ رسالتين على الجوال، الأولى تفيد بأن هناك من دفع لي رصيداً بمبلغ يزيد عن 10 يورو، والثانية منها تقول فيها: ـ كان عندي رصيد في هاتفي لكنني احتلتُ عليك لأعرف رقم هاتفك فأجزيكَ على حسن فعلتك، إن شئت احتفظ برقمي، وإن زرت مدينتي فاعلم بأن لك فيها أمّاً ستقبلك. فرددتُ عليها برسالة قلت فيها: ـ عندما نظرتُ إلى عينيك خطر ببالي أنها عيون ثعلبية لكنني لم أجرؤ أن أقولها لك، أتمنى أن تجمعنا الأيام ثانية، أشكركِ على الحكمة واعلمي بأنني سأبيعها بمبلغ أكبر بكثير. انتهت قصتي مع تلك السيدة العجوز.. "بس دقيقة" حكمة أهديها لك، فمن يقبلها مني في زمن نهدر فيه الكثير من الساعات دون فائدة؟... | |
|